إن كل شريعة نزلت من السماء تجد بها الكثير من الكلام عن حلاوة العباد الذين يعاملون الناس معاملة حسنة، وعن حب الله لهؤلاء العباد حتى أنه يُروى عن سيدنا "عيسى" عليه الصلاة والسلام أنه كان يمشي ذات يوم فوجد كلبا يمر فقال له: "مُرَّ بسلام".. فقالوا له: أتكلم الكلب وتقول له "مُر بسلام".. أهو بشر؟!! فقال: "أردت أن أعوّد لساني على حسن المنطق". أما عن نبينا صلى الله عليه وسلم فلو تكلمنا عن أخلاقه فإننا لن نوفيه حقه؛ فمصدر كل شيء تعلمناه هو النبي صلى الله عليه وسلم، وكل خلق حسن تخلقنا به فمن أخلاقه التي مدحها الله بقوله: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ}.
وموضوع اليوم اللسان، وهو النافذة التي كما تخرج منها كل المعاني الطيبة فإنها أيضا النافذة التي تخرج منها كل العيوب والأخلاق السيئة. وحفظ اللسان من أكثر الأخلاق التي تكلم عنها النبي صلى الله عليه وسلم وحذّر من خطورة تركها. وإن له أثرا كبيرا، فحفظ اللسان يؤدي للخير كله، وانفلاته وما يخرج منه من سوء يؤدي للشر كله.
فكم من بيت تهدم، وأصحاب تفرقوا، وحروب قامت، ودماء سالت، بسبب هذا اللسان. وكم من إنسان ألقي في النار على وجهه بسبب اللسان. وأحب أن أنبهكم إلى أن أكثر المشاكل التي تواجهنا كمسلمين هو نسيان أننا بين يدي ربنا في هذه الدنيا وأن أي نظرة أو كلمة نقولها يكون أول من يسمعها هو الله عز وجل، وأن أعلى مقامات العبودية وأكثر الناس قرباً منه هو أوعاهم وأقربهم لكلمة النبي حين سُئل عن الإحسان فقال: "أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك".. فمن استشعر أن الله يراه وينظر إليه استحيا من الله سبحانه فلا يفعل إلا ما هو جميل ولا ينطق إلا ما هو خير وحقٌّ.
يقول "الحسن البصري" رضي الله عنه: "رحم الله عبداً وقف عند همه، فإن كان لله أمضاه، وإن كان لغير الله توقَّف".. أي رحم الله العبد الذي إذا همَّ بقول أو فعل سأل نفسه أهو يرضي الله؟ فإن كان يرضيه فعله أو قاله وإن لم يكن يرضيه أعرض عنه ونأى. وسبحان ربنا القائل: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}.. ذلك لنعلم أن الكلمة تخرج من اللسان إما لميزان الحسنات أو لميزان السيئات.. وما ربك بظلام للعبيد.
لقد أعطانا الله اللسان وهو نعمة عظمى؛ فبه نتكلم ونتذوق الأشياء، وبه نذكر ربنا، ونصلي على نبينا، ونقول ما يطيب به عيشنا، ولم يخلقه الله للسب واللعن والغيبة والنميمة، أو إفشاء الأسرار، ولا لقول كلمة لا ترضيه، فلماذا نستخدم نعمة الله فيما يغضب الله، وبأي منطق نحول هذه النعمة إلى نقمة؟! لا يفعل هذا سوى قوم لا يعقلون.
فلنحذر أن نقول بألسنتنا الفحش من القول؛ فقد قال صلى الله عليه وسلم: "مَا شَيْءٌ أَثْقَلُ فِي مِيزَانِ الْمُؤْمِنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ خُلُقٍ حَسَنٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَيَبْغَضُ الْفَاحِشَ الْبَذِيءَ". ولنكفَّ علن اللعن والسب؛ فقد قال صلى الله عليه وسلم: "إنّ اللَّعَّانِينَ لاَ يَكُونُونَ شُهَدَاءَ وَلاَ شُفَعَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَة". ولنستحيِ من الله ولنمتثل قوله صلى الله عليه وسلم: "الاِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الاِيمَانِ".
ولا نستهين بأقوالنا وأن يسب أحدنا الآخر؛ فإن ذلك من كبائر الذنوب، كما قال صلى الله عليه وسلم: "من الكَبَائِرِ شَتْمُ الرَّجُلِ وَالِدَيْهِ". قَالوا يا رسُول اللَّهِ هَل يَشتِمُ الرّجلُ والديهِ قَالَ "نَعَمْ يَسُبّ أَبَا الرَّجُلِ فَيَسُبُّ أَبَاهُ وَيَسُبّ أُمَّهُ فَيَسُبُّ أُمَّهُ".
ومن عظم هذا الذنب ومن الجميل في تركه يقول الإمام "شعبة" وهو أحد كبار رواة الحديث: "لم أدرك أمي ولكني لم أسب أحدا حتى يسبها فذلك برها".. ولنعلم أنه كم من رزق كتبه الله تمنعه الذنوب عن الوصول إلينا كما جاء في حديث النبي الكريم: "إِنَّ الرَّجُلَ لَيُحْرَمُ الرِّزْقَ بِالذَّنْبِ يُصِيبُهُ".
إن الحياة تضيق بنا والأرزاق تقتر علينا والضنك يحيط بجوانب حياتنا. ولو دققنا لم نجد لذلك سببا سوى ذنوب اقترفناها، وأقوال لا تُرضي الله قلناها، وقد أعطى الرسول علامة من علامات الصديقين الذين يرافقون الأنبياء في الجنة فقال صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة: "لا ينبغي لصدِّيق أن يكون لعانا". وقد ورد في كتاب الإمام "الذهبي" عن الغيبة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في يوم حجة الوداع يوم عرفة سأل عن الزمان والمكان، فقيل له: إن اليوم هو الجمعة ويوم عرفة ونحن بأرض مكة.. فقال صلى الله عليه وسلم: "إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا".
والمسلم الحق ليس بنمَّام؛ فهو يعلم حقيقة قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يدخل الجنة نمَّام". وقال صلى الله عليه وسلم -كما في الصحيحين من حديث "ابن عباس"- قال: "مرّ النبي صلى الله عليه وسلم بقبرين فقال: "إنهما يعذبان وما يعذبان في كبير؛ أما أحدهما فكان لا يستبرئ من بوله، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة".
فلنحذرْ مكائد الشيطان وآفات اللسان. فإنها تهوي بابن آدم في قعر الجحيم. ولنتذكر دائما أن حصائد الألسنة إما أن تؤدي بالإنسان لمحبة الناس ومحبة رب الناس في الدنيا ورضاه يوم القيامة، أو تؤدي لعداوة الخلق وغضب الخالق ونار جهنم. فاذكروا الله ذكرا كثيرا وسبحوه بكرة وأصيلا، ولنطيِّب نفوسنا ونريح أرواحنا ونرضي ربنا بالقول الجميل فإن اللسان ملعقة تغرف من القلوب فإن كان القلب طيبا طابت أقوالنا وإن طابت أقوالنا طابت معيشتنا وتقربنا إلى ربنا.
والله أسأل أن يجعل قولنا صدقا ونطقنا ذكرا وحديثنا حقا، وأن يجعلنا من الذاكرين أبدا، وأن يطهرنا من كل ما لا يرضيه.. آمين
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين